الأربعاء، 18 يناير 2012

ثقافة الإنسان المعاصر هي سلاحه في الحياة

يشغلُ الشأن الثقافي القوميّ الاجتماعيّ قمة هرم متطلبات الحياة الإنسانية القومية الاجتماعية. حيثُ أن بوسع الثقافة القومية الاجتماعية ذات المدلول الإنسانيّ الحضاري أن تزرعَ فوق سطح الأرض ببيئاتها المتباينة، الحب والحق والخير والجمال والحرية والطمأنينية والنظام والواجب والقوة والأمن والسلام، كما تستطيعُ الثقافة القومية الاجتماعية ذات المدلول الإنسانيّ الحضاري أن تخلقَ بين الأمم والمجتمعات المتباينة مبدأ الصراع نحو الأفضل، وتحفز الإنسان ـ المجتمع (وبخاصةً المعاصر والمستقبلي) في بيئاته المتباينة على سعة الإدراك لضرورة استبدال نسق الرتابة والتوتر والمعاناة وثقافة الهيمنة والقوة التي سيطرت على كوّننا، بنسق ضوابط الإنصاف والحق والتوافق مع العقل الذي هو الشرع الأعلى، ومع القيم الإنسانية لمواجهة آليات نظم ما يسمى بالتحررية الحديثة الماضية بالتجمعات البشرية إلى مصيرٍ مجهول، بل وتجرها إلى حافة الإنهيار، إلى عالمٍ منفلتٍ، ليبدو أنه مستعصٍ على الانضباط القومي الاجتماعي، إذا ما تسرب الشك والخوف إلى النفوس من قدرة المعرفة. وبالتالي فإن إغلاق الإطار على الشك والخوف من أن قدرة المجتمع على المعرفة التي تولد قوة الثقافة القومية الاجتماعية لأيةِ أمةٍ من الأمم، هو إهدارٌ لفرصةٍ تاريخية ممكنة لإعادة التدقيق في حسابات عالمنا الراهن والمستقبليّ الذي نحيا فيه من منطلقٍ قوميٍّ اجتماعيّ.

ولدت الحضارة من رحم الثقافة التي ولدت من رحم المعرفة، وبدأت حياتها حيث انتهى الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه مواقع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وكان موقف "سعادة"، قوله بضرورةِ المعرفة للحقيقية، وعدم كفاية الوجود غير العاقل في ذاته لتكوينِ قيمةِ الحقيقة، لأن الحقيقةَ قيمةٌ فكريةٌ تحصل في العقلِ أو الضمير بواسطةِ المعرفة فقط. وإن افتراضَ المجهول لا يكوّن حقيقة. فلا يستطيعُ أحد القول إن حدثاً ما قد حصل أو لم يحصل في مكانٍ ما، إلا بالمعرفةِ الصحيحةِ فقط". وبذلك يتضح أنَ موقف "سعادة" هو موقفُ الفيلسوف المعتمد العقل والمعرفة، بينما موقف مناظريه كان موقف المعتمد الحدس والتخمين الذي يجعل افتراض المجهول قاعدة للحكم. إن الفيلسوف المؤمن بحقيقته، وحقيقة فلسفته، لا يلبثُ أن يدركَ حاجتهُ إلى وسائل العقل العادي، ليشق الطريق لفلسفته التي هي في ذاتها خروج على المعتاد. إن كل الشعب السوري، مؤهلٌ للأخذِ بهذا الاتجاه بقيادة فلاسفته الذين يدركون حقيقة نفسيته، التي كادت طبقات الحوادث التاريخية تطفئُ نورها. إن الإدراك العادي سيظلُ إدراكاً عادياً، مهما تثقف وارتقى، والفلسفة تظلُ فلسفةً، والعالم لا يحتاجُ فقط إلى الفلسفة، بل يحتاجُ إلى الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيثُ يوجد معطٍ، يجبُ أن يكون هنالك مستلمٌ، يقبل. وإنه حين نفكرُ في الفلسفة، لا نفكرُ بالأسماء، "بل في الحقائق والمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكر فيها هؤلاء الفلاسفة، في الحقائق النفسية الأخيرة، وتغوص هذه الحقائق والمرامي في أعماقِ نفسك، وتحس تياراتها الخفية الجارية تحت الطبقات التاريخية المطبقة عليها، فتكتشفُ نفسك ـ نفسيتك الأصلية بكل جمالها، وكل قوتها ـ فتخرج فليسوفاً، لا ناقل فلسفة. وحينئذٍ تجدُ الحلقةَ المفقودةَ بين الفلسفة والإدراك العادي، وتدركُ الرابطة بين الفيلسوف وأمته وبين حيوية أمته، وقبول الشعوب القريبة منها[شروح في العقيدة ـ "من الزعيم إلى الدكتور شارل مالك ـ كتاب نقدٍ وتوجيه"].

باتت الحضارة بعد ولادتها نظاماً اجتماعيّاً ـ ثقافيّاً ـ عمرانيّاً يُعِيْنُ منظومة الإنسان ـ المجتمع على الدخول في أنشوطةٍ لولبية متصاعدة للاستزادة من إنتاجها الثقافي ـ المعرفي، محررة في نفس الإنسان ـ المجتمع مواقع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، حيث لا تنفك الحوافز الطبيعية (بفعل آلية التفاعل المتبادل في أنشوطة الفعل ورد الفعل)، تستنهضه للمضيّ قدماً نحو فهم الحياة وازدهارها، وتدفعه إلى الاستزادة من إنتاجه الثقافي بهدف تطوير حياته على اختلاف وجوهها، ليشتمل على تطوير الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والتراكم المعرفي للعلوم والفنون. وكان بذلك اتحاد الناس في بيئاتهم والعمل على توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية منطلقاً للثقافة والتراكم المعرفيّ وتوظيفهما في إعلان ضمني عن ولادة بوادر المتحد بفعل العوامل الجيولوجية والجغرافية والبيئية والاقتصادية، وبالتالي إعلان عن ولادة الأمة، ذات الثقافة القومية الاجتماعية. فـ" النبوغ السوري، وتفوق السوريين العقلي على من جاورهم وعلى غيرهم، أمرٌ لا جدال فيه، فهم الذين مدنوا الأقريك، ووضعوا أساسَ مدنية البحر المتوسط التي شاركهم فيها الأقريك فيما بعد". وبذلك فإن الثقافة والمعرفة وقصة الحضارة ابتدأت في الهلال السوريّ الخصيب، لا لأنه قد كان مسرحاً لأقدم مدنيّة معروفة لنا فحسب، بل كذلك لأن تلك المدنيّة ذات الثقافة القومية الاجتماعية قد كونت البطانة والأساس للثقافات المصرية واليونانية والرومانية، التي ظن خطأً أنها المصدر الوحيد الذي أستقى منه العقل الحديث. ويوضح المبدأ الرابع من مبادئ العقيدة السورية القومية الاجتماعية بجلاء، أن "الأمةُ السوريةُ هي وحدة الشعب السوري، المتولدة من تاريخٍ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي"، وأنه "يمكننا أن نفهمَ أسباب تفوق السوريين النفسي الذي لا يعود إلى المزيج المطلق، بل إلى نوعية المزيج المتجانس الممتازة والمتجانسة تجانساً قوياً مع نوعية البيئة". فـ"في سورية، مجتمعٌ إنسانيٌّ له نفسية مستمدة من تركيبه، وخصائصه وتراثهِ وتاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي"، مستمداً مثله العليا من نفسيته، معلناً "أن في النفس السورية كل علمٍ، وكل فلسفةٍ، وكل فنٍ في العالم... ". فـ"النفسية السورية قد برهنت، على أنها عظيمة المقدرة، مستكملةً شروط الوعي الصحيح والإدراك الصحيح، وأن لها مقدرة على إدراكِ واستيعابِ كل ما يمكّنُ النفس من أن تستوعبه وتدركه في هذا الوجود". و"إنها نفسٌ تقدرُ في ذاتها على المعرفة والإدراك، وتمييز القصد، وتصور أسمى صور الجمال في الحياة. إنها نفسٌ تسيرُ بوعيٍ، ولها كل مؤهلات الإدراك الشامل العام لشؤون الحياة والكون والفن".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق